القانون بدعة وضلالة في معتقد المرجعيات الدينية وسيفاً مصلتاً على رأس السلطة في آن واحد
ليس المقصود بهذا العنوان الإجابة عن سؤال العصر, وهو: لماذا تخلف المسلمون وتقدم الآخرون ? بقدر ما هو تحليل لمضمون سؤال يتبادر إلى الذهن بين الفينة والأخرى , مَن المسؤول عن إفساد الآخر , الإسلام أم السلطة , أم كليهما معاً ?
المعنى الأوضح لما سبق , هل الدين الإسلامي بمحتواه العام , وفرقه وملله ونحله , هو المفسد الرئيسي لحركة العلم والتقدم الإنساني في العصر الحاضر , أم أن السلطة والصراع عليها سياسياً وتاريخياً , هو الذي عطل وأفسد مسيرة الحياة لدى شعوب الشرق , التي تطغى عليها الهوية العربية أوالإسلامية ?
في الواقع , ثمة تداخل معقد بين روحانية الاسلام وزمنية السلطة , منذ عصر الخلافة الراشدة , العصر الذي جرى فيه احتواء أكبر أزمة بين قبيلة قريش وآل بيت الرسول (صلى الله عليه وسلم) وما لبثت هذه الأزمة أن انفجرت مجدداً في نهاية عصر الخلافة بعد نيف وأربعين عاماً هجرية , على وقع أشهر حادثة اغتيال سياسي في تاريخ الإسلام , وتمثلت باغتيال الخليفة الرابع علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه) , لتشتد بعدها دوامة الصراع السياسي المتلحف دائماً بغطاء الدين , مع ما تركه هذا الصراع من ندب واضحة في جوهر الدين الواحد لجهة انقسامه إلى شيع وفرق وملل , وصل بعضها إلى درجة الالتفاف على الدين نفسه في سبيل استمرارية السلطة وتوزيعها بالمداورة بين الأحفاد .
فالحاكم المسلم , قديماً وحديثاً , أول ما يبدأ التفكير في انجازه , هو تثبيت أركان سلطته , حتى لو تعارضت مع مصالح الأهل والأخوة وأبناء الملة والعشيرة , فما بالنا بالدين , قبل أن يبدأ في إحياء فكرة الدولة , وقلما يعثر التاريخ على حاكم سار في كلا الأمرين , أو أنه غلب منطق الدولة على منطق السلطة , إلا ما ندر .
الفساد بطبعه يحتاج إلى إصلاح , حتى لو كان هذا الإصلاح يستهدف الدين نفسه قبل أن يستهدف الإنسان المؤمن , وهنا ثمة جدلية كبيرة لم تحل عقدها بعد , وهي من أين يجب أن يبدأ الإصلاح أولاً , هل يبدأ من الدين نفسه , مع ما يعينه ذلك من بدع أو تضليل , أم يبدأ من المؤمن نفسه الذي غالا كثيراً في فهمه وممارسته للدين , لا سيما وأن جميع الدعوات الإصلاحية ذهبت أدراج الرياح , ولم تجد لها آذاناً صاغية, بل أن بعض دعاتها تعرضوا فيما تعرضوا له من تكفير وتخوين , أوالاتهام بالترويج للثقافة الماسونية .
ولطالما كان من المتعسر على عقل المرجعيات الدينية قبول مبدأ الإصلاح لغاية في نفسها أو في نفس الحاكم , فليس معروفاً حتى الآن موطن الفساد , فلا أصحاب السلطة يقبلون بالمحاسبة والمكاشفة , ولا المراجع الدينية ترضى عن فتح دفاتر الماضي .
ولأن التداخل بين الإسلام والسلطة جد معقد , فالأشد تعقيداً , عملية الفصل بينهما , أو تفكيكهما بالحد الأدنى , فإن المشكلة ستبقى قائمة إلى ما لا نهاية فلو انتهى هذا التداخل عند حد معين , لاستطعنا أن نرى دولاً وبلداناً أقل فساداً , حكاماً كانوا أو محكومين , على غرار بعض الدول الأوروبية , والسؤال المشروع: لماذا ترتفع معدلات الفساد بشتى أشكاله ومستوياته في الدول الإسلامية على سلم الشفافية الدولية , في حين تنخفض أو تنعدم في الدول الغربية ?
لا شك أنه سؤال صعب , والأصعب منه سؤال مدجج بالحجج والذرائع التي نسمعها دائماً في ما يشبه الأسطوانة المشروخة , وهو: لماذا انهارت أخلاقيات وسلوكيات المجتمع الاوروبي المسيحي , بينما بقيت أخلاق المسلمين في أحسن أحوالها , لجهة عدم الانحلال الخلقي أو التحلل الاجتماعي ?
إذا كان الأمر كذلك , فلماذا يستمر تقدم المجتمعات الأوروبية " اللا أخلاقية " وسط تقهقر مجتمعاتنا المحافظة? أم أن الأخلاق مجرد زينة , ولا علاقة لها في ضبط الفساد كما هو راهن في حالتنا ? وقد يقول قائل من باب التبرير , إن للقانون وجوده أو عدم وجوده , علاقة في الأمر وليس الأخلاق , لناحية اجتثاثه للب الفساد , إذا كان موجوداً , أي القانون ,أو شيوع الفساد إذا كان معطلاً , والسؤال هنا : لماذا نقزم سلطة القانون ونعلي من مكانة الأخلاق , بما هي عادات وتقاليد وأعراف ?
أخيراً , لطالما بقي القانون العام بدعة وضلالة في معتقد المرجعيات الدينية , وسيفاً مصلتاً على رأس السلطة , فإن مفاعيل الفساد , ستظل أشد رجعية بالمجتمعات , وأكثر فساداً للدين والسلطة , مهما حاولت الأخلاق التخفيف من حدته